منزلة الشعر والشاعر:
كانت للشعر في الجاهلية عند العرب مكانة مرموقة، لذا قال ابن سلام الجمحي: "وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به، به يأخذون وإليه يصيرون"(1). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"(2).
وبسبب هذه القيمة السامية جعلوه أعلى درجة من الخطابة هذا على الرغم من خطورة وجلال الخطيب، ولكن سلطان الشعر جعل الخطابة تتوارى، يقول أبو عمر بن العلاء: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم"(3).
تتجلى مظاهر التلقي في هذه النصوص، من خلال المكانة الرفيعة التي أعطاها الإنسان العربي للشعر، وذلك باتفاق الجميع، لقد كان الشعر لديهم مصدرا معتمدا، وحكما مقدما، وهذه المنزلة السامية التي تبوأها الشعر تكشف أثر الشعر في نفوسهم وانقيادهم لسلطانه.
إن المهام المتعددة التي اضطلع بها الشعر تفسر أحوال التلقي في هذا العصر، فما دامت العرب ترهبه وتهابه وتسمق به فإن أثره فيها جلي. لقد "كان الناس يحرصون عليه حرصهم على أعز الأشياء لديهم، وأثمنها في حياتهم، لأن في الشعر تنفيسا عن المكروب وغناء للواله"(4). لذا، كـان الشعر والشاعر كلاهما من وحي تلك البيئة الجاهلية ينقلان ما تمـور به مـن ألوان الشقاء والسعادة، والحروب والسـلام، إذا "فالشعر.. صـورة فنية موازيـة لحيـاة أصحـابه وأفكارهم وبيئتهم"(5).
إن هذه الوظيفة الجليلة، وتلك القيمة الرفيعة هما اللتان جعلتا الجاهلي يصغي لهذا الشعر ويرهبه ويحس في نفسه أحاسيس الافتخار والقوة خلال تلقيه واستقباله. و "الشعر الجاهلي في إطار ذلك صورة للبيئة التي صدر عنها أبناؤها بخصائصها وأشكالها، وقد نقلوها بعفوية مستمدة منها "(6)إنها بيئة جعلت الشعر سلاحها في الداخل والخارج، وهذا ما جعل التلقي يشغل مساحة واسعة، حيث ينتقل الأثر من أفراد القبيلة إلى أعدائها. ولهذه الأسباب "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك.."(7). بوأت القبيلة الشاعر المرتبة الأسمى، وقد يفوق زعيمها أحيانا، نظرا لحجم وجسامة المهام التي أناطه بها ميثاق القبيلة، وكل هذا يبرز لنا من جهة أخرى منزلة التلقي. فما سر تمجيد الشاعر؟ لأنه "حماية لأعراضهم وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم"(
.
لقد سحب البساط ههنا من فارس الحسام ودانت الرقاب لفارس الكلمة الذي يردي خصومه صرعى بسحر ونفوذ منظوم فاخر، وليس بضربة سيف باتر. ومع هذه المكانة الجليلة للشعر والشاعر، ازدهر التلقي وتوسعت دائرته، لأنه محرك النفوس وباعث انفعالها وحاضها على الخير أو الشر. ووسط هذه الحظوة التي نالها الشعر والشاعر أمست مهمة الشاعر "في المجتمع العربي أخطر من دور العراف والساحر والكاهن.. وتأثير الساحر والكاهن محدود بعالمها.. أما تأثير الشاعر أوسع وأبعد بكثير، فإن كلمته يتسع تأثيرها ليشمل المجتمع كله"(9) ،حسب أحوالهم وأزمانهم.
2-المفاضلة بين الشعراء والتلقي:
انتهى الأمر بالعرب في الجاهلية لفرط عنايتهم بالشعر وتنافسهم في إجادة نظمه، وسعيهم لحيازة قصب السبق في إبداع قصائده، إلى عرضه في الأسواق المشهورة على نظر شعراء فحول اتخذوهم حكاما على قصائدهم.
أتى في الموشح، أن النابغة الذبيـاني كانت "تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها"(10). هذا الأسلوب الذي نهجته العرب أمام الملإ، زيادة على دلالته على عنايتها الفائقة بالشعر إبداعا، فإنه أبلغ في التعبير عن إيلائها التلقي اهتماما مضاعفا. وهذا برهان على وعي العرب العميق والشديد بعناصر وأبعاد الظاهرة الشعرية. وقد أفضى هذا النهج ولاشك إلى توسيع قاعدة المتلقين، كما أفضى إلى إعلاء شأن الشعر وقائليه، كما شجع على الاحتفاء بالشعر تلقيا وحفظا في الصدور وما ينتج عن ذلك من أثر في النفوس. وقد ذاع تحكيم الفحول للفصل في شعر الشعراء، وصار تقليدا يلجأ إليه عند عسر القراء والاختيار، مما فسح دائرة التلقي أمام عدد كبير من المتلقين. ومما يروى في هذا الباب، تنازع امرئ القيس وعلقمة الفحل في الشعر، أيهما أشعر؟ فادعى كل واحد للآخر بأنه أشعر منه، فقال علقمة: "قد رضيت بامرأتك أم جندب حكما بيني وبينك. فحكماها، فقالت أم جندب لهما: قولا شعرا تصفان فيه فرسيكما على قافية واحدة، وروى واحد فقال امرؤ القيس: خليـلي مرا بي علـى أم جنـدب نقـض لبانـات الفـؤاد المعـذب (11)
وقال علقمة:
ذهبت من الهجران في غير مذهب ولم يـك حقـا طول هـذا التجنب" نلاحظ أن أم جندب حددت للشاعرين شروطا موضوعية قبل إصدار حكمهما، وهذا يدل على وعي العرب منذ الجاهلية بقواعد النقد وضوابط الحكم على القول الشعري، كما تبرز هذه الرواية أن التلقي عند العرب لم يكن نشاطا عشوائيا خاضعا للهوى، ولكنه كان نشاطا مضبوطا يمتثل فيه المتلقون لسنن المعنى والمبنى والشعر عموما، ولا يسمح لهم بالزيغ عنها.
ولما أنشداها القصيدتين، قالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك. قال: وكيف؟ قالت: لأنك قلت:
فللسـوط ألهـوب وللـسـاق درة وللزجـر منـه وقع أخرج مهذب
فجهدت فرسك بسوطك في زجرك، ومريته فأتبعته بساقك، وقال علقمة:
فـأدركهـا ثانـيـا من عنانـه يمـر كمـر الرائـح المتحـلب
فأدرك فرسه ثانيا من عنانه، لم يضربه ولم يتعبه"(12).
يتبدى لنا من خلال حكم أم جندب قيام التلقي والنقد على تعليل يقف عند الشاهد في البيت الشعري، وفي هذا تزكية لما ذكر آنفا، من أن التلقي عند العرب صادر عن وعي نقدي وإحساس شعري في الآن نفسه. إن بيت امرئ القيـس لم يحرك نفس متلقـيته أم جنـدب، لأنه يتضـمن إجهادا للفرس وزجرا له، أما بيت علقمة فاستطاع ولوج فؤادها لما أحسته بعد تلقيه من الارتياح نظرا لأسلوب تعامل علقمة مع فرسه.
ولكن زوج أم جندب لم يستسغ هذا الحكم الذي صدر من زوجه فقال: "ما هو بأشعر مني، ولكن له عاشقة فسمي الفحل لذلك"(13).
بناء على هذه الرواية، وغيرها كثير في بطون مصادرنا، يتضح لنا أن العرب كانت مختلفة في تلقيها الشعر، فكل قارئ/سامع له ذوقـه الخاص الذي تكون لديه بالفطرة والتعلم والصقل ومعاشرة النصوص وتلقيها. والتنازع في الأشعر، معيار ينبئ عن تباين تلقينا للنصوص، فما يجده هذا المتلقي في شعر هذا الشاعر من الأثر النفسي والارتياح، قد لا يكون مقتسما مع قارئ آخر، من هنا كان اللجوء إلى تحكيم الفحول المشهود لهم بالتفوق آخر حل يتمسك به الطرفان المتنازعان.
واستقبال النص من لدن الشاعر المحكم، بفتح الكاف وتضعيفه، توسيع لرقعة التلقي وتحريض عليه بإصرار وقصد، الغاية القصوى من ورائه هو رؤية مدى نفوذ القصيدة في وجدان هذا الشاعر الذي عاش تجربة النظم ومعاناته، ودفع إلى مضايقه. والتماس أم جندب من الشاعرين صياغة شعرهما وفقا لتلك الشروط الدقيقة يمنح تلقيها المعبر عنه في ما صدر عنها من أحكام، مصداقية تنبئ عموم المتلقين وعيها شروط المفاضلة التي تهدف إلى الإنصاف من هنا، نستنتج أن شعراء الجاهلية وانطلاقا من إحساسهم بحقيقة الشعر وقوانينه، وإدراكهم شروط التلقي ومؤهلات المتلقي المتدرب والمتصرف في فنون القول، لم يجازفوا بعرض شعرهم على من لا يحسن تقويمه وتمييز جيده من رديئه. ولكن، لماذا رضي علقمة بأم جندب حكما/متلقيا بينه وبين امرئ القيس مع وجود قرابة بين الحكم وخصمه؟ وقد أكد حكمها الذي هو نتيجة لتلقيها أن العرب وإن عرفت عنهم عصبيتهم وانقيادهم للهوى في مواطن عديدة، إلا أننا نصادف في أم جندب شخصية فذة، لم تأسرها عاطفتها ولم تقعد بها أصرتها الأسرية عن الانسياق صوب الجودة التي ارتضتها، فجاء رأيها صراحا، وقالت دون مواربة لامرئ القيس إن علقمة أشعر منك.
وهنا ثارت ثائرة امرئ القيس، والتمس لحكمها تعليلا، فلما تفوهت به، لم يتمالك مشاعره واتهمها بعشق علقمة. إن العربي في الجاهلية، أحس أثر الكلمة في النفس وسحر الشعر في القلوب، لذا نراه يتجرد من كل الروابط القبلية والأسرية، ليعانق حقيقة نفسه التي نبض بها وجدانه، لكن، لماذا رد امرؤ القيس بقوله، له عاشقة. إذا حملنا قوله لها والذي أتى رد فعل زمن تلقى الحكم، يغلب عليه كثير من الانفعال، ألفيناه مجانبا للصواب، ولكن إذا بحثنا مفهومه ألا نكتشف فيه حقيقة لابد من إبانتها ههنا؟
فأي عشق هذا؟ إنه عشق مغاير، ومن لون آخر لن يكون بمقدورنا المثول بحضرته إذا لم تنطلق من بعد التلقي، فأم جندب لم تعشق علقمة، بل عشقت تعبيره وشعره لجماليته وانسجامه مع حقائق الأمور وهذا العشق ثمرة الكلمة ونفوذها لا يلام عليها العاشق/المتلقي، لا سيما إذا بسط أمامه تعليلا يعضده. إن الإنسان "العربي مرهف الحس شاعري النفس فيه أريحة ونجدة، سريع الغضب، شديد الطرب فيه ذكاء وفيه بديهة وارتجال، ومن كان هذا شأنه لم يلبث إذا جاش صدره بالمعنى أن يرسله قولا، ويصوغه شعرا"(14).
ومما يؤكد صلات أحكام التقويم النقدي أعلاه بالتلقي، صدوره عن مفاهيم بيئة المتلقين، وأعرافهم الاجتماعية، إن "المتقبل يصدر في تعليله لجودة النص من محيطه، فكلما كان النص الأدبي وفيا لعادات القوم كان وقعه أشد. وهذا أمر طبيعي في مجتمع يعتبر الشعر ديوانا"(15